المسألة الإيرانية على مائدة «حوار المنامة»

جمال أبو الحسن

فى «حوار المنامة»، المنتدى الاستراتيجى السنوى الذى انعقد الأسبوع الماضى بالعاصمة البحرينية، برز سؤالٌ محورى: ماذا تفعل الولايات المتحدة مع إيران؟ وماذا تفعل فى المنطقة؟ الجواب جاء من مسؤولين كبار فى الإدارة الأمريكية، مثل وزير الدفاع «لويد أوستن»، الذى تحدث عن أن الولايات المتحدة ليست بصدد مغادرة المنطقة، وأنها سوف تدافع عن حلفائها وشركائها. من بين ما قال للتدليل على كلامه إن بلاده دعمت المملكة العربية السعودية بالتدريب والتكنولوجيا، حتى صارت قادرة على التصدى لنحو 90% من الصواريخ والمُسيَّرات الحوثية التى تُطلق على أرضها. أضاف مسؤول كبير آخر أن الأسطول الخامس الأمريكى رابضٌ على مرمى حجر (فى البحرين)، وأن بلاده لن تُغادر إلى أى مكان.

مع ذلك لم تنجح التطمينات فى معالجة القلق المتصاعد، الذى انعكس فى أسئلة ومداخلات الحضور، الذين ينتمى أغلبهم إلى حقل العمل الأمنى والاستخباراتى والدفاع، سواء بالممارسة أو بالبحث والدراسة. لخص رئيس المؤتمر، الباحث البريطانى المخضرم، «جون شيبمان»، الوضع بالإشارة إلى أن التيار الأهم فى العالم اليوم هو «الإنهاك من التدخل العسكرى». إنها حالة تُعانى منها الكثير من القوى الكبيرة والمؤثرة عبر العالم. ثمة «نفاد صبر» على المستوى الاستراتيجى يدفع إلى تقليص فى الوجود العسكرى، وانسحابات تُجريها الدول من مسارح العمليات المختلفة. الانسحاب الأمريكى من أفغانستان النموذج الأوضح هنا. قال «شيبمان» إن هذه السياسة التى تهدف إلى تخفيض حدة الصراعات قد لا تقود بالضرورة إلى اختفاء الأزمات والمشكلات.. بل ربما تُفضى إلى مفاقمتها، خاصة إذا كانت القوى الأخرى التى تُشعل الأزمات- مثل إيران- لا تشعر بمثل هذا الإنهاك!.

«بريت ماجورك»، وهو المسؤول عن الشرق الأوسط فى البيت الأبيض، حاول التقليل من دلالة الانسحاب الأمريكى من أفغانستان. قال إن هذا البلد يُمثل حالة فريدة لا يُقاس عليها. المصالح فى الشرق الأوسط أكبر وأهم من أن تتجاهلها الولايات المتحدة أو تُدير لها ظهرها. بل ذهب هذا المسؤول إلى حد القول بأن الانسحاب من أفغانستان قد يمنح الإدارة وقتًا وموارد للتركيز على ما هو أهم فى المنطقة العربية!.

«ماجورك» يتمتع بعقلية استراتيجية منظمة. ربما كانت كلماته هى الأهم فى حوار المنامة. للرجل موقف مشهود مع إدارة «ترامب»، حيث كان يعمل مسؤولًا عن التحالف المناهض لداعش. عندما أعلن «ترامب»، فى ديسمبر 2018، فجأة، وعبر «تويتر»، كالعادة، عن سحب القوات الأمريكية من شرق سوريا، قرر «ماجورك» الاستقالة من منصبه المهم، فى خطاب نشره على الملأ. تضمن الخطاب انتقادًّا حادًّا للخطوة التى اتخذها الرئيس الأمريكى لما تنطوى عليه من رسالة خطيرة بتخلى أمريكا عن حلفائها (الأكراد). الرجل ليس مجرد موظف عادى إذن. هو صاحب موقف ورؤية.

تصوُر «ماجورك»، كما بسطه أمام الحضور فى حوار المنامة، ينطلق من خطأ سياسة التدخل المُفرط التى باشرتها أمريكا فى الشرق الأوسط منذ 11 سبتمبر 2011. قال إن هذه السياسة كانت لها أهداف قصوى، مثل تغيير الشرق الأوسط كله، والإطاحة ببعض الأنظمة. غير أنها لم تأخذ بعين الاعتبار عامل الكُلفة العالية، ولا المخاطر المحتملة من ورائها، ليس فقط على الولايات المتحدة وإنما أيضًا على حلفائها فى المنطقة. ضرب «ماجورك» مثلًا ذا دلالة: عندما طبقت إدارة ترامب سياسة الضغط الأقصى فى مواجهة طهران، قامت هذه الأخيرة بضرب منشآت أرامكو فى المملكة العربية السعودية فى سبتمبر 2019، ولم تفعل إدارة «ترامب» شيئًا. لم ترد الإدارة الأمريكية وقتها على هذا العمل العدائى الذى تعرض له حلفاؤها، بل غرد ترامب وقتها بأن أمريكا لا يجب عليها أن تبقى فى الشرق الأوسط!.

السؤال المتكرر، الذى يتردد فى أروقة السياسة وقاعات القرار الاستراتيجى عبر المنطقة، يتعلق بمدى فاعلية الردع الأمريكى فى مواجهة إيران. هذه الأخيرة قطعت خطوات مهمة وخطيرة على طريق الحصول على السلاح النووى منذ خرجت إدارة ترامب من الاتفاق النووى الشامل فى عام 2018. هى تُريد المقايضة وتسعى فقط لرفع العقوبات، دون التراجع عن هذه الخطوات المتقدمة. البعض يرى أننا نقترب من نقطة يكون فيها أى اتفاق مع إيران غير مُجْدٍ بسبب ما أحرزته من تقدم على المسار النووى. قبل أيام، توقع وزير المالية الإسرائيلى «ليبرمان» تطوير إيران سلاحًا نوويًّا «خلال خمس سنوات، باتفاق نووى أو بغيره». أما رئيس الوزراء الإسرائيلى فقال، فى تصعيد مهم: «إن الخطأ الذى ارتكبناه بعد الاتفاق النووى لعام 2015 لن يتكرر». وأضاف، فى محاضرة ألقاها فى إسرائيل، قبل أيام: «نواجه أوقاتًا عصيبة. ومن المحتمل أن تكون هناك خلافات مع أفضل أصدقائنا».

المسألة الإيرانية معقدة للغاية لأن الأطراف لديها شواغل متباينة ومخاوف مختلفة حيال التهديد القادم من طهران. عرب الخليج يُقلقهم بشدة تهديد الصواريخ والمُسيَّرات والميليشيات. إسرائيل تواجه فى إيران ما تراه «تهديدًا وجوديًّا»، من السلاح النووى والميليشيات والهجمات السيبرانية، وغيرها. أما فى الولايات المتحدة والغرب، فالتركيز منصبٌ على أمرٍ واحد هو منع إيران من الحصول على السلاح النووى. المشكلات والمتاعب الأخرى التى تتسبب فيها إيران تشغل أمريكا أيضًا، لكنها تأتى فى مرتبة ثانية. هذا التباين بين إدراك الأطراف المختلفة لطبيعة الخطر الإيرانى هو سبب رئيسى وراء صعوبة التعامل معه.

لذلك كان طبيعيًّا أن يتساءل الكثيرون فى المنامة عن فاعلية الردع الأمريكى. وجّه صحفى إسرائيلى سؤالًا محرجًا لـ«ماجورك» حول إحجام الإدارة عن الرد على هجوم نفذته إيران مؤخرًا على معسكرات أمريكية فى سوريا (فى التنف). قال «ماجورك» إنه ليس كل ردٍ يُعلن عنه أو يظهر فى صورة انفجار نراه على شاشات السى إن إن. أضاف، فى عبارة لها دلالة، أن بلاده لن تَنْجَرَّ إلى مناوشات. هى لن تسعى للرد على الهجمات الإيرانية فى العراق أو سوريا بمنطق واحدة بواحدة، وإنما سيأتى ردها حاسمًا وكاسحًا!.

كان لافتًا كذلك ما قاله مستشار الأمن القومى الإسرائيلى «هولتا» فى المنامة من أن بلاده تتعاون مع دول خليجية فى إطار ما سماه «هيكلًا دفاعيًّا مشتركًا» للرد على التهديدات الإيرانية. بعد هذا الحديث بأيام، اقترح قائد سلاح الجو الإسرائيلى التعاون مع شركاء مثل الإمارات والبحرين، ضد تهديدات الطائرات المُسيَّرة.

يستخلص المرء من جلسات حوار المنامة أن المواجهة مع إيران تدخل مرحلة حاسمة. وأن ضغوط هذه المواجهة تُقرب دولًا عربية من إسرائيل بصورة غير مسبوقة، فى ضوء تشكُّك لايزال سائدًا حول صدقية الردع الأمريكى.

شاهد أيضاً

القدر

فضائل ليلة القدر

مَنْزلتها: مِن نِعَم الله – سبحانه وتعالى – على هذه الأمة أنْ جعل لها مواسمَ …