رمز الصحوة

د.محمد السعيدي

لم يكن اكتمال تكوين الدولة السعودية في طورها الثالث توحيداً لأكثر أجزاء جزيرة العرب في كيان حضاري وإشاعةً للأمن والطمأنينة فيها وحسب، بل كان الأمر أكبر من ذلك بكثير؛ بل كان إنهاضاً للروح الإسلامية التي أصابها الوهن والإحباط بسبب توالي الخسائر والانكسارات على المسلمين، حتى خيم الاحتلال الغربي على كل الأراضي الإسلامية، ولم يسلم من ذلك سوى سلطنة نجد ومملكة الحجاز اللتين كانتا تحت الحكم السعودي، واليمن التي كانت تحت حكم الدولة الإمامية؛ أما ما سواهما من أقطار المسلمين فقد كانت قسمة بين الدول الاستعمارية الغربية؛ أما إسطنبول والأجزاء الشمالية والشرقية من الأناضول، فقد تركتها الدول الاستعمارية بسبب تصادم مصالحها؛ وعدم وصولها لأي حل لتقاسمها؛ وكان من المقرر تسليم الأجزاء الغربية والجنوبية من الأناضول إلى اليونان؛ لكن هذه الفكرة تم إلغاؤها بعد معركتي إينونو عام 1921، وبعد هذه المعركة بثلاث سنوات تم إلغاء الخلافة العثمانية وطرد الخليفة عبدالمجيد الثاني، وبهذا الحدث ازداد إحباط النفسية المسلمة التي كانت ترى في الخلافة العثمانية رغم كل ما عانته منها في قرنها الأخير رمزاً للجامعة الإسلامية والاتصال السياسي بعصور المجد والانتصار؛ وكان التدهور المعنوي يزداد مع صدمة المسلمين بالشخصيات المسلمة التي يتعلق بها المسلمون زمنا كرموز لإعادة الأمل، ثم لا تلبث الأحداث حتى تكشف عن حقائقها المحزنة، كرموز الثورة العربية الكبرى التي انتهت بتحطيم قطار الحج العظيم الذي بنته الشعوب المسلمة بأموالها؛ وتقسيم الشام وتسليمه لبريطانيا وفرنسا؛ وكمصطفى كمال أتاتورك، الذي تصوره المسلمون في بادئ الأمر منقذاً للخلافة الإسلامية، وإذا به لا يكتفي بالإجهاز على الدولة العثمانية، بل يعمل على الإجهاز على الدين الإسلامي بالكلية في خطوات لم يسبقه إليها أحد، ولم تجرؤ عليها حتى أشرس الدول المستعمرة.

في أثناء توالي هذه الإحباطات وخيبات الأمل كانت الأخبار تتوالى للمسلمين في جميع بلادهم المنكوبة عن ذلك القائد الشاب الذي يسعى إلى توحيد الجزيرة العربية ويعلن عن المناداة بالكتاب والسنة والتوحيد والإسلام كما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفهمه عنه سلفنا الصالح، وهي نداءات لم تألفها آذان المسلمين في كل رموز النهضة في العصر الحديث، حيث كانت كل الشعارات ما بين قومية ووطنية، أو إسلامية ممتلئة بالكثير من التنازلات والتراجعات أمام معطيات الحضارة الأوروبية، أما الخطاب الإسلامي الصادر من الجزيرة العربية فقد كان قوياً ناصعاً ظاهراً واثقاً من انتمائه بعيداً عن أي انهزامية في الأحكام العقدية أو الفقهية أو المصطلحات، ثم نقل حجاج المسلمين في عام 1344، وما بعدها إلى المسلمين أجمعين: أن ما كانوا يسمعونه من شعارات هو حقائق تطبق على الواقع المعاش في الحجاز بكل قوة وحزم، وأشاد بذلك علماء وكتاب من مختلف العالم الإسلامي كعلماء الهند وجمع كبير من علماء المغرب، وكاتب كعباس العقاد الذي سجل انطباعاته في مجموعة مقالات ظهرت فيما بعد في كتاب “مع عاهل الجزيرة العربية”، وشكيب أرسلان الذي دون رحلته في كتاب “الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف”، وقد أعاد تناقل أخبار نجاحات الملك عبدالعزيز القوة المعنوية للمسلمين، ولم يكن من باب المصادفة أن تكون هبَّتهم العظيمة في وجه الاستعمار، على أثر النجاحات العظيمة للمملكة في تأسيس كيانها العظيم، كالثورة الليبية على المستعمر الإيطالي، والتي استعادت نشاطها بعد إقامة الزعيم الليبي أحمد الشيف السنوسي في مكة بعد ضم الحجاز إلى سلطة الملك عبدالعزيز، وإقامة الرجلين علاقات وثيقة كان من ثمارها مراسلات الشريف السنوسي للثوار في الداخل ودعمه حركة عمر المختار من مكة والمدينة، تلك المراسلات التي قَص إحداها بالتفصيل مستشار الملك عبدالعزيز آنذاك محمد أسد في كتابه الطريق إلى مكة، ويمكنك قول الشيء ذاته عن حركة محمد بن عبدالكريم الخطابي في المغرب، وجمعية العلماء المسلمين في الجزائر، وقد عبَّر مالك بن نبي في مذكراته عن نفسه كأنموذج من الشباب الجزائري الذي أعادت نجاحات الملك عبدالعزيز في نفسه انبعاث الآمال بعودة العزة والانتصار للمسلمين، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، والتي تأسست هي أيضا بعد اكتمال توحيد المملكة العربية السعودية، وكان لمؤسسها حسن البنّا علاقة وطيدة بالمتأثرين بالمنهج السلفي كالشيخ رشيد رضا، ثم كانت علاقته بالملك عبدالعزيز رحمه الله بعد أدائه فريضة الحج عام 1936 واستمرت هذه العلاقة حسنة حتى تغير موقف الإخوان من السعودية بعد ثورة 48 اليمنية التي دعمها الإخوان وأدت إلى قتل الإمام المُسِن يحي حميد الدين، ولم تلق اليمن بعدها خيراً حتى هذا التاريخ.

المهم من هذا السرد هو أن تأسيس المملكة العربية السعودية كان أعظم مظاهر الصحوة الإسلامية في العصر الحديث سياسية وعقدية وفقهية، ففي السياسة: تيقن المسلمون: أنهم قادرون على تأسيس دول تحكم بشريعة الله رغم الاستعمار الأوروبي الضارب، وفي العقيدة كانت السعودية أول دولة إسلامية منذ قرون طويلة جداً تضرب بسهامها في خاصرة الخرافة التي سيطرت على المسلمين حتى أخفت معالم العقل ومعالم التوحيد، ولم يبدأ توحيد العبادة ونبذ مظاهر الشرك وتحرير العقول من طقوس الخرافيين يظهر في خطابات العلماء والدعاة، إلا مع ظهور هذه الدولة منذ طورها الأول حتى طورها الثالث الذي بدأ في التكون من عام 1319هـ وبدأت معه حركة التنوير الحقيقية بين المسلمين.

وفي الفقه بدأت الفتاوى الانهزامية أمام الحضارة الأوروبية تتقلص، وقويت الفتوى التي مرجعيتها الكتاب والسنة وإجماع الأئمة دون مبالاة بسطوة الفكر الاستشراقي والطرح المتغرب.

لذلك لم تكد هذه الدولة تُكْمِل أطوار نشأتها حتى تم تسليط التيارات الفكرية الماركسية والقومية على عقول شبابها رغبة في تخفيف الوهج الإسلامي العظيم المنبثق من داخل الجزيرة العربية، والذي كان يُخشى من قوة مفعوله التغييري على مصالح الشرق والغرب في بلاد المسلمين، وبشكل أخص على الكيان الصهيوني المزروع حديثاً خاصة بعد تقديم الملك عبدالعزيز تعهداً أمام الحكام العرب بعد هزيمة عام 1948 بأن يخرج اليهود من فلسطين بقبيلة من قبائل العرب، وحين أراد رحمه الله إنفاذ جيوش التوحيد إلى فلسطين تمت مواجهته من بعض الدول العربية أولاً، وتهديد المملكة من الدول الراعية للوجود الصهيوني في خاصرة الأمة الإسلامية، وقد روى هذه الأحداث أحمد عبدالغفور عطار في كتابه “ابن سعود وقضية فلسطين”.

وقد نجحت التيارات اليسارية والتغريبية إضافة إلى الصدمة الحضارية التي عانى منها بعض مثقفي السبعينات والثمانينات الهجرية، ساهم ذلك في إحداث الانصراف عن التدين عادت بعدها الأمور إلى نصابها وبدأ التدين يعود إلى طبيعته وإلى حقيقته التي تأسست عليها هذه الدولة المباركة.

فالقول بأن الصحوة هي تلك الفترة التي نشطت فيها بعض التيارات الإسلامية داخل السعودية قول تافه غير مستوعب لحقيقة الدولة والدعوة الإصلاحية التي قامت عليها، وكذا القول بأن هذه الصحوة ستموت بسبب حفلة غنائية تقام هنا وفيلم سينمائي يعرض هناك، إنما هو تمتمات تعبر عن إحباط قائلها، أما الأعظم خطراً من مثل هذا القول فهو الاستجابة له ولأمثاله والانهيار أمامه والتسليم لمدلوله.

نعم: إن الدعوة العظيمة التي قامت عليها هذه الدولة بأجنحتها الثلاثة “العقدية والفقهية والسياسية “تُحَارَب حرباً شعواء لم تشهدها منذ تأسيس الطور الثالث على يد الملك عبدالعزيز، لكن هناك من يتصور خاطئاً أن محاربة الجناح السياسي لهذه الدعوة وهو الدولة لن يؤثر على الجناح الفقهي والجناح العقدي، وأكثر منه خطأً من يظن أن محاربة الجناح الفقهي والعقدي لن يؤثر على الجناح السياسي، إنها أجنحة ملائكية ثلاثة لا يمكن لهذا الكيان الذي انطلق بها أن يستمر في الطيران دون واحد منها.

شاهد أيضاً

القدر

فضائل ليلة القدر

مَنْزلتها: مِن نِعَم الله – سبحانه وتعالى – على هذه الأمة أنْ جعل لها مواسمَ …